على خلاف ما نعتقد، فإننا حين نرسل أبناءنا إلى المدرسة لا ندفع بهم إلى رحاب العلم الحق، ولكننا في الواقع، نسلمهم طواعية لأقنومي الحداثة الأكثر ضراوة: الدولة، والسوق، ليتم تشكيلهم وفق قوالب لا نملك فيها أي رأي، ولا نستطيع مواجهتها بأية مقاومة.
لقد نشأ التعليم النظامي المعاصر تلبية لحاجات ذينك الوحشين، مستغلين غطاء من الشرعية المستندة إلى “العلم“.
على خلاف ما نعتقد، فإننا حين نرسل أبناءنا إلى المدرسة لا ندفع بهم إلى رحاب العلم الحق، ولكننا في الواقع، نسلمهم طواعية لأقنومي الحداثة الأكثر ضراوة: الدولة، والسوق، ليتم تشكيلهم وفق قوالب لا نملك فيها أي رأي، ولا نستطيع مواجهتها بأية مقاومة.
أما الدولة، فقد كانت بحاجة إلى آلية فعالة لإنجاح عملية الضبط الاجتماعي والقولبة المتحكم فيها للمواطن/الرعية، بدءا من سنوات طفولته الأولى.
ومهما كانت طبيعة النظام السياسي، توفر المقررات الدراسية أداة طيعة للتنشئة السياسية والاجتماعية على المبادئ التي يقرر صناع القرار أنها هي الإطار الأسلم لتنظيم المجتمع خلال فترة ما، ولذلك نجد أن هذه “المبادئ” تتغير باستمرار حسب المحددات البيئية من جهة، وبناء على التغيرات في تفضيلات صناع القرار، أو تغيرهم هم أنفسهم من جهة أخرى.
حين كنا في المرحلة الابتدائية في الثمانينيات، كانوا يجعلوننا نحفظ عن ظهر قلب أن “جبهة التحرير الوطني هي القوة الطلائعية لقيادة الشعب وتنظيمه من أجل تحقيق أهداف الاشتراكية”.
واليوم، يلقن الأطفال في حصة التربية المدنية أن تولي الحكم يكون عن طريق الانتخاب الحر من طرف المواطنين، في انتخابات يتنافس فيها أشخاص كثيرون، وأن “الدولة الجزائرية تسعى إلى بناء المؤسسات بطريقة ديمقراطية بهدف تطبيق المساواة وتحقيق تكافؤ الفرص بين أبنائها”.
ومن يدري كيف سيكون المحتوى بعد جيل أو جيلين، هل سنجد درسا حول مخاطر تعدد الأحزاب وفضائل الحزب الواحد مجددا، أم ترويجا لشكل مغاير من التنظيم السياسي، لا يخطر ببال أحد اليوم.
أما السوق، فقد كان التمدرس على الدوام خادما لحاجاتها الأساسية؛ اليد العاملة المؤهلة لشغل وظائف محددة، والمادة الرمادية اللازمة لتطوير أدائها وتصحيح عيوبها، وفي الحالتين كليهما، السند البشري الدائم لاستمرار هيمنة السوق على باقي المؤسسات الاجتماعية.
وبشكل من الأشكال، يمكن فهم التغيرات الحاصلة على مدة التمدرس، العام والمتخصص، ومحتواه وتوجهاته، من خلال الاحتياجات الطارئة للسوق في كل مرحلة.
وربما كانت الفترة الطويلة نسبيا لاستكمال “متطلبات التخرج” والحصول على الشهادة/المؤهل إحدى آليات الضبط التي تمارسها السوق للتحكم في الطلب على الوظائف، والمقابل الذي تمنحه عن كل وظيفة.
كما تمارس السوق هيمنة شبه كاملة على مسارات المعارف العلمية وتطورها، من خلال التحكم في تمويل برامج البحث والتطوير، والنشر عالي المستوى، وتثمين الاكتشافات والاختراعات الجديدة.
ويمكن للمتأمل أن يقف على سطوة السوق في طبيعة التخصصات الأكثر طلبا في الجامعات.
ولذلك ترى بعض التخصصات ذات المحتوى العلمي الرفيع مثل الفلسفة تتقهقر إلى المراتب الدنيا ضمن تراتبية التخصصات حسب معيار الطلب. بينما تهيمن التخصصات ذات العائد الأكبر في سوق الشغل، بغض النظر عن محتواها النظري وأصالتها المعرفية.
أكبر إنجاز حققه هذا التحالف، كان نجاحه في جعلنا نسلّم بترتيباته السياسية والاجتماعية من غير أن نجرؤ حتى على التفكير في صوابها أو خطئها، بل مقاومتها والثورة عليها. الظاهر أنه قد تمت قولبتنا بنجاح باهر.
وعلى سبيل المثال، كان تخصص التربية البدنية والرياضية قبل بضع سنوات الأول ضمن اختيارات الطلبة على مستوى جامعتنا، وربما في البلد كله، لأن فرص التوظيف لخريجيه كانت وفيرة، أما اليوم، فالتخصص يستجدي الطلبة، وصار مهددا بالغلق في أي لحظة.
أعتقد أن التمدرس، بصفته واحدا من الترتيبات الاجتماعية المعاصرة، يجب أن يحظى بمراجعة جادة وشجاعة.
لقد كان الأولياء قديما يعهدون بأبنائهم إلى علماء يعلمونهم فنون العلم المختلفة، وإلى صناع وحرفيين يعلمونهم مهارات كسب العيش. وظلت المؤسسة العلمية مستقلة عن السلطة السياسية، بل ومناوئة لها في أحيان كثيرة.
ولكن تحالف السلطة السياسية والسوق في العصر الحديث أنتج واقعا مغايرا، رفع من شأن المعارف التي تخدم منطقهما، وبخس العلم المحض قيمته، بل جعلاه خادما تحت أقدامهما.
غير أن أكبر إنجاز حققه هذا التحالف، كان نجاحه في جعلنا نسلّم بترتيباته السياسية والاجتماعية من غير أن نجرؤ حتى على التفكير في صوابها أو خطئها، بل مقاومتها والثورة عليها. الظاهر أنه قد تمت قولبتنا بنجاح باهر.
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.