الجميع يبحث عن السعادة ويناشد اللحظة التي يحققها، وعلى كثرة الباحثين عنها على قلة من يعثرون عليها، وبين الواقع والخيال يطلبها الواثقون والواهمون، في دروب السعي والمثابرة أو في دهاليز المهلوسات والمشروبات الروحية وتصديق الخرافات، وبين الممنوع والمباح جدار فاصل لا يسمح بالتمازج.
وفي عصر التكنولوجيا والتطور وتعدد وسائل الرفاهية التبس على الناس مفهوم السعادة، وقرونها بماديات ومظهرية براقة، ولعل ذلك يوافق محدودية الأفكار وقصور النظر.
ففي صغري ظننت أن السعادة بقدر عدد اللعب التي أحصل عليها وحدث وأن كسبت الكثير منها وعلى مختلف الأنواع والأحجام، ولكن سرعان ما أدركت أن سعادتي لم تكتمل كما كنت أتوسم، وأني سأحققها بالحصول على كل ما أرغب فيه من حلوى ووافق أن نلت كل ما اشتهيته منها بشتى الأذواق والألوان لكني لم أطل السعادة التي ناشدتها.
ثم التحقت بمقاعد الدراسة وقررت أن السعادة هي انضمامي لقائمة الأوائل ونيل شهادات تقدير وتفوق، وبالفعل انضممت إليها ورأيت السعادة في عيني والدي ولكني سرعان ما وجدت أن ذلك صار اعتياديا بمرور الوقت ولم يعد منبع سعادة لي.. بل مجرد رتابة يومية لسنوات تمر على عجل.
كبرت وصرت أبحث السعادة هنا وهناك مع إخوتي وصديقاتي، في بعض الرحلات والجلسات العائلية، ولكنها كانت مجرد لحظات تنتهي بالعودة إلى نقطة البداية، فاستمريت بالبحث عنها في تجارب الآخرين واهتديت للبحث عنها بين الكتب والدفاتر.
وبعد بحث طويل وعناء تعرفت على العارفين المجتهدين الذين عرفوا معنى السعادة الحقيقية وعاشوها بكل تفاصليها..
وجدتني أعود بالزمن إلى الوراء واستحضر ما حفظته عن ظهر قلب في الكتاتيب وما استذكرته مع أخي -رحمة الله عليه- في ليالي شهر رمضان الفضيل، وما ذاكرته معه في المتون الشرعية والفقهية والمنظومات النحوية والشعرية، أمام محدودية أفكاري وبساطة عقلي الطفولي الذي بقيت عالقة به كل تلك الكنوز النفيسة والدرر التي لا تقدر بثمن وما أدركت قيمتها يومها..
وكنت أتعجب لإصرار أخي أو أبي الروحي- طيب الله ثراه – وشدته أحيانا حد القسوة علي لأواصل الحفظ ولو من غير فهم والاستظهار وقت الحاجة، فقد كان محقا واجتهد في خط الكثير على ذاكرتي البيضاء.
وفي لحظة صدق مع الذات سافرت مع حادي الأرواح لبلاد الأفراح، ومن شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل أخذت ترياق لكل أوجاع الروح وسنان الدهر، وهمت بين رياض المحبين والمشتاقين..
وأدركت أن السعادة ليست في أموال نكسبها ولا حلية نلبسها ولا مطاعم نطعمها، بل هي الحرية التي نعيشها بالتحرر من كل قيد ولذة وشهوة تصرفنا عما هو أسمى، تعلمت بأمانة أن الحرية المطلقة في منتهى العبودية للخالق سبحانه جل وعلا.
السعادة ليست في تقارير تعدها المنظمات والهيئات وتضع لها مقاييس مادية معينة، السعادة ليست وفق مؤشر عالمي وما تم معاينته ليس إلا متعة مؤقتة تزول بزوال الأسباب أو تضمحل بمرور الوقت لتصبح روتينا مملا..
فالواقع يثبت أن كل البلدان التي تتصدر القائمة بها حالات انتحار رهيبة وأن نسبة كبيرة من سكانها تتعاطى مضادات للاكتئاب وغيرها من المسكنات الروحية، وما خفي أعظم.
هذا لا يعني أن السعادة لا تحتاج لماديات، بل هي جزء منها ولكن ذلك حسب ما يقدره المرء ويقرنه بنية صادقة فقد قَالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -:
“أَرْبَعٌ مِنَ السَّعَادَةِ: الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ، وَالْجَارُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ، وَأَرْبَعٌ مِنَ الشَّقَاوَةِ: الْجَارُ السُّوءُ، وَالْمَرْأَةُ السُّوءُ، وَالْمَسْكَنُ الضَّيِّقُ، وَالْمَرْكَبُ السُّوء”..
ويظهر جليا أن التكامل بين الجانبين المادي والروحي من أجل عيشة هنية وسعادة حقيقية في الدارين.
إذن فالسعادة قرار صائب في اختيار الطريق الصحيح الذي يتحقق بتوفيق من الله أما غير ذلك فحرمان وشقاء، ولا أحد يجهل حقيقة من عاش السعادة الحقيقية بكل تفاصيلها ومن أراد الوصول لما وصل إليه فعليه باتباع نهجه عليه الصلاة والسلام صاحب السعادة الدائمة.
@ طالع أيضا: “وقت المسلم ثمين”.. درسٌ ألماني لشاب عربي!؟
تعليقات القراء تعبر عن رأيهم فقط، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع أو خطه التحريري.